فصل: ذكر وفاة سيف الدين بن أتابك زنكي وبعض سيرته وملك أخيه قطب الدين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي

في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج عازمًا على قصد بلاد الإسلام وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه وتوفر أمواله وعدده فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه وامتثلوا أمره ونهيه فأمرهم بالمسير معهم إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه فساروا معه ونازلوها وحصروها وكان صاحبها مجير الدين أبق بن نوري بن طغدكين وليس له من الأمر شيء وإنما الحكم في البلدلمعين الدين أنر مملوك جده طغدكين وهو الذي أقام مجير الدين وكان معين الدين عاقلًا عادلًا خيرًا حسن السيرة فجمع العساكر وحفظ البلد‏.‏

وأقام الفرنج يحاصرونهم ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم وصبروا لهم وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي وكان شيخًا كبيرًا فقيهًا عالمًا فلما رآه معين الدين وهو راجل قصده وسلم عليه وقال له‏:‏ ياشيخ أنت معذور لكبر سنك ونحن نقوم بالذب عن المسلمين سأله أن يعود فلم يفعل وقال له‏:‏ قد بعت واشترى مني فوالله لا أقلته ولا استقلته فعنى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل عند النيرب نحو نصف فرسخ عن دمشق وقوي الفرنج وضعف السلمين فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر فأيقن الناس بأنه يملك البلد‏.‏

وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم فجمع عساكره وسار إلى الشام واستصحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب فنزلوا بمدينة حمص وأرسل إلى معين الدين يقول له‏:‏ قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد واحتمينا به وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه‏.‏

فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد فكف الفرنج عن القتال خوفًا من كثرة الجراح وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين فأبقوا على نفوسهم فقوي أهل البلد على حفظه واستراحوا من لزوم الحرب وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء‏:‏ إن ملك المشرق قد حضر فإن رحلتم وإلا سلمت البلد إليه وحينئذ تندمون وأرسل إلى فرنج الشام يقوللهم‏:‏ بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم‏.‏

واجتمع الساحلية بملك الألمان وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه وأنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد وتسلموا قلعة بانياس وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي من وراء القسطنطينية وكفى الله المؤمنين شرهم‏.‏

وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق‏:‏ أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله بك وأين أنت فقال غفر لي وأنا في جنات عدن

  ذكر ملك نور الدين محمود حصن العريمة

لما سار الفرنج عن دمشق رحل نور الدين إلى حصن العريمة وهو للفرنج فملكه‏.‏

وسبب ذلك أن ملك الألمان لما خرج إلى الشام كان معه ولد الفنش وهو من أولاد ملوك الفرنج وكان جده هو الذي أخذ طرابلس الشام من المسلمين فأخذ حصن العريمة وتملكه وأظهر أته يريد أخذ طرابلس من القمص فأرسل القمص إلى نور الدين محمود وقد اجتمع هو ومعين الدين أنر ببعلبك يقول له ولمعين الدين ليقصدا حصن العريمة ويملكاه من ولد الفنش فسارا إليه مجدين في عساكرهما وأرسلا إلى سيف الدين وهو بحمص يستنجدانه فأمدهما بعسكر كثير مع الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر وغيرها فنازلوا الحصن وحصروه وبه ابن الفنش فحماه وامتنع به فزحف المسلمون إليه غير مرة وتقدم إليه النقابون فنقبوا السور فستسلم حينئذ من به من الفرنج فملكه المسلمون وأخذوا كل من به من فارس وراجل وصبي وامرأة وفيهم ابن الفنش كما قيل‏:‏ خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين

  ذكر الخلف بين السلطان مسعود وجماعة من الأمراء

في هذه السنة فارق السلطان مسعودًا جماعة من أكابر الأمراء وهم من أذربيجان‏:‏ إيلدكرالمسعودي صاحب كنجة وأرانية وقيصر ومن الجبل‏:‏ البقش كون خر وتتر الحاجب وهو من مماليك مسعود أيضًا وطرنطاي المحمودي شحنة واسط والدكز وقرقوب وابن طغايرك‏.‏

وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى خاص بك واطراحه لهم فخافوا أن يفعل بهم مثل فعله بعبد الرحمن وعباس وبوزابة ففارقوه وساروا نحو العراق وغلت الأسعار وتقدم الإمام المقتفي لأمر الله بإصلاح السور وترميمه وأرسل الخليفة إليهم بالعبادي الواعظ فلم يرجعوا إلى قوله ووصلوا إلى بغداد في ربيع الأخر والملك محمد ابن السلطان محمود معه من ونزلوا بالجانب الشرقي وفارق مسعود بلال شحنة بغداد البلد خوفًا من الخليفة وسار إلى تكريت وكانت له فعظم الأمر على أهل بغداد ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة فنزل بالجانب الغربي فجند الخليفة أجنادًا يحتمي بهم‏.‏

ووقع القتال بين الأمراء وبين عامة بغداد ومن بها من العسكر واقتتلوا عدة دفعات ففي بعض الأيام انهزم الأمراء الأعاجم من عامة بغداد مكرًا وخديعة وتبعهم العامة فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بعض العسكر من ورائهم ووضعوا السيف فقتل من العامة خلق كثير ولم يبقوا على صغير ولا كبير وفتكوا فيهم فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله وكثر القتلى والجرحى وأسر منهم خلق كثير فقتل البعض وشهر البعض ودفن الناس من عرفوا ومن لم يعرف ترك طريحًا بالصحراء وتفرق العسكر في المحال الغربية فأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة ونهبوا بلد دجيل وغيره وأخذوا النساء والولدان‏.‏

ثم إن الأمراء اجتمعوا ونزلوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا وترددت الرسل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار وعادوا إلى خيامهم ورحلوا إلى النهروان فنهبوا البلاد وافسدوا فيها وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد‏.‏

ثم إن هؤلاء الأمراء تفرقوا وفارقوا العراق وتوفي الأمير قيصر بأذربيجان هذا كله والسلطان مسعود مقيم ببلد الجبل والرسل بينه وبين عمه السلطان سنجر متصلة وكان السلطان سنجر قد أرسل إليه يلومه على تقديم خاص بك ويأمره بإبعاده ويتهدده بأنه إن لم يفعل فسيقصده ويزيله عن السلطنة وهو يغالط ولا يفعل فسار السلطان سنجر إلى الري فلما علم السلطان مسعود بوصوله سار إليه وترضاه واستنزله عما في نفسه فسكن‏.‏

وكان اجتماعهما سنة أربع وأربعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر انهزام الفرنج بيغرى

في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى من أرض الشام وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها فعلم بهم فسار إليهم في عسكره فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالًا شديدًا وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج وقتل كثير منهم وأسر جماعة من مقدميهم ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم‏.‏

وفي هذه الوقعة يقول ابن القيسراني في قصيدته التي أولها‏:‏ ياليت أن الصد مصدود أولا فليت النوم مردود ومنها في ذكر نور الدين‏:‏ وكيف لا نثني على عيشنا ال - - محمود والسلطان محمود وصارم الإسلام لا ينثني إلا وشلو الكفر مقدود مكارم لم تك موجودة إلا ونور الدين موجود وكم له من وقعة يومها عند الملوك الكفر مشهود في هذه السنة قصد سوري بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فملكها‏.‏

وسبب ذلك أن أخاه ملك الغورية قبله محمد بن الحسين كان قد صاهر بهرام شاه مسعود بن إبراهيم صاحب غزنة وهو من بيت سبكتكين فعظم شأنه بالمصاهرة وعلت همته فجمع جموعًا كثيرة وسار إلى غزنة ليملكها وقيل‏:‏ إنما سار إليها مظهرًا الخدمة والزيارة وهو يريد المكر والغدر فعلم به بهرام شاه فأخذه وسجنه ثم قتله فعظم قتله على الغورية ولم يمكنهم الأخذ بثأره‏.‏

ولما قتل ملك بعده أخاه سام بن الحسين فمات بالجدري وملك بعده أخوه الملك سوري بن الحسين بلاد الغور وقوي أمره وتمكن في ملكه فجمع عسكره من الفارس ومن الراجل وسار إلى غزنة طالبًا بثأر أخيه المقتول وقاصدًا ملك غزنة فلما وصل إليها ملكها في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة‏.‏

وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند وجمع جموعًا كثيرة وعاد إلى غزنة وعلى مقدمته السلار الحسن بن إبراهيم العلوي أمير هندوستان‏.‏

وكان عسكر غزنة الذين أقاموا مع سوري بن الحسين الغوري وخدموه قلوبهم مع بهرام شاه وإنما هم بظواهرهم مع سوري فلما التقى سوري وبهررام شاه رجع عسكر غزنة إلى بهرام شاه وصاروا معه وسلموا إلى سوري ملك الغورية وملك بهرام شاه غزنة في المحرم سنة أربع وأربعين وصلب الملك سوري مع السيد وكان سوري أحد الأجواد له الكرم الغزير والمروءة العظيمة حتى أنه كان يرمي الدراهم في المقاليع إلى الفقراء لتقع بيد من يتفق له‏.‏

ثم عاود الغورية وملكوها وخربوها وقد ذكرناه سنة سبع وأربعين وذكرنا هناك ابتداء دولة الغورية لأنهم في ذلك الوقت عظم محلهم وفارقوا الجبال وقصدوا خراسان وعلا شأنهم وفي بعض الخلف كما ذكرناه والله أعلم‏.‏

  ذكر ملك الفرنج مدنًا من الأندلس

في هذه السنة ملك الفرنج بالأندلس مدينة طرطوشة وملكوا معها جميع قلاعها وحصون لاردة وأفراغة ولم يبق للمسلمين في تلك الجهات شيء إلا واستولى الفرنج على جميعه لاختلاف المسلمين بينهم وبقي بأيديهم إلى الآن‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي أبو بكر المبارك بن الكامل بن أبي غالب البغدادي المعروف أبوه بالخفاف سمع الحديث الكثير وكان مفيد بغداد‏.‏

وفيها غلت الأسعار بالعراق وتعذرت الأقوات بسبب العسكر الوارد وقدم أهل السواد إلى بغداد منهزمين قد أخذت أموالهم وهلكوا جوعًا وعريًا وكذلك أيضًا كان الغلاء في أكثر البلاد‏:‏ خراسان وبلاد الجبل وأصفهان وديار فارس والجزيرة والشام وأما المغرب فكان أشد غلاء بسبب انقطاع الغيث ودخول العدو إليها‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن نبهان الغنوي الرقي ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة وصحب الغزالي والشاشي وروى الجمع بين الصحيحين للحميدي عن مصنفه‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفي الأمام أبو الفضل الكرماني الفقيه الحنفي إمام خراسان‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة

  ذكر وفاة سيف الدين بن أتابك زنكي وبعض سيرته وملك أخيه قطب الدين

في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها بمرض حاد ولما اشتد مرضه أرسل إلى بغداد واستدعى أوحد الزمان فحضر عنده فرأى شدة مرضه فعالجه فلم ينجع فيه الدواء وتوفي أواخر جمادى الأجرة وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراَ وعشرين يومًا وكان حسن الصورة والشباب وكانت ولادته سنة خمسمائة ودفن بالمدرسة التي بناها بالموصل وخلف ولدًا ذكرًا فرباه عمه نور الدين محمود وأحسن تربيته وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود فلم تطل أيامه وتوفي في عنفوان شبابه فانقرض عقبه‏.‏

وكان كريمًا شجاعًا عاقلًا وكان يصنع لعسكره كل يوم طعامًا كثيرًا مرتين بكرة وعشية فأما الذي بكرة فيكون مائة رأس غنم جيدة وهو أول من حمل على رأسه السنجق وأمر الأجناد ألا يركبوا إلا بالسيف في أوساطهم والدبوس تحت ركبهم فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف بني المدرسة الأتابكية العتيقة بالموصل وهي من أحسن المدارس ووقفها على الفقهاء الحنفية والشافعية وبنى رباطًا للصوفية بالموصل أيضًا على باب المشرعة ولم تطلأيامه ليفعل ما في نفسه من الخير وكان عظيم الهمة ومن جملة كرمه أنه قصده شهاب الدين الحيص بيص وامتدحه بقصيدته التي أولها‏:‏ إلام يراك المجد في زي شاعر وقد نحلت شوقًا فروع المنابر فوصله بألف دينار عينًا سوى الخلع وغيرها‏.‏

ولما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مقيمًا بالموصل فاتفق جمال الدين الوزير وزين الدين علي أمير الجيش على تمليكه فأحضروه واستحلفوه وحلفوا له وأركبوه إلى دار السلطنة وزين الدين في ركابه وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين كالموصل والجزيرة والشام‏.‏

ولما ملك تزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش التي كان قد تزوجها أخوه سيف الدين وتوفي قبل الدخول بها وهي أم أولاد قطب الدين‏:‏ سيف الدين وعز الدين وغيرهما من أولاده‏.‏

  ذكر استيلاء نور الدين على سنجار

لما ملك قطب الدين مودود الموصل بعد أخيه سيف الدين غازي كان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام وله حلب وحماة فكاتبه جماعة من الأمراء وطلبوه وفيمن كاتبه المقدم عبد الملك والد شمس الدين محمد وكان حينئذ مسحفظًا بسنجار فأرسل إليه يستدعيه ليتسلم سنجار فسار جريدة في سبعين فارسًا من أمراء دولته فوصل إلى ماكسين في نفر يسير قد سبق أصحابه‏.‏

وكان يومًا شديد المطر فلم يعرفهم الذي يحفظ الباب فأخبر الشحنة أن نفر من التركمان المجندين قد دخلوا البلد فلم يستتم كلامه حتى دخل نور الدين الدار على الشحنة فقام إليه وقبل يده ولحق به باقي أصحابه ثم سار إلى سنجار فوصلها وليس معه سوى ركابي وسلاح دار ونزل بظاهر البلد وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله فرآه الرسول وقد سار إلى الموصل وترك ولده شمس الدين محمدًا بالقلعة فأعلمه بمسير والده إلى الموصل وأقام من لحق أباه بالطريق فأعلمه بوصول نور الدين فعاد إلى سنجار فسلمها إليه فدخلها نور الدين وأرسل إلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب الحصن يستدعيه إليه لمودة كانت بينهما فوصل إليه في عسكره فلما سمع أتابك قطب الدين وجمال الدين وزين الدين بالموصل بذلك جمعوا عساكرهم وساروا نحو سنجار فوصلوا إلى تل يعفر وترددت الرسل بينهم بعد أن كانوا عازمين على قصده بسنجار فقال لهم جمال الدين‏:‏ ليس من الرأي محاقته وقتاله فإننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان وما هو بصدده من الغزاة وجعلنا أنفسنا دونه وهو يظهر للفرنج تعظيمًا وأنه تبعنا ولا يزال يقول لهم‏:‏ إن كنتم كما يجب وإلا سلمت البلاد إلى صاحب الموصل وحينئذ يفعل بكم ويصنع فإذا لقيناه فأن هزمناه طمع السلطان فينا ويقول‏:‏ هذا الذي كانوا يعظمونه ويحتمون به أضعف منهم وقد هزموه وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج ويقولون إن الذي كان يحتمي بهم أضعف منه وقد هزمهم وبالجملة فهو ابن أتابك الكبير‏.‏

وأشار بالصلح وسار هو إليه فاصطلح وسلم سنجار إلى أخيه قطب الدين وسلم مدينة حمص والرحبة بأرض الشام وبقي الشام له وديار الجزيرة لأخيه واتفقا وعاد نور الدين إلى الشام وأخذ معه ما كان قد ادخره أبوه أتابك الشهيد فيها من الخزائن وكانت كثيرة جدًا‏.‏

ووزارة ابن السلار في هذه الستة في جمادى الآخرة توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر‏.‏

وكانت خلافته عشرين ستة إلا خمسة أشهر وعمره نحو من سبع وسبعين سنة ولم يزل في جميعها محكومًا عليه يحكم عليه وزراؤه حتى إنه جعل أبنه حسنًا وزيرًا وولي عهده فحكم عليه واستبد بالأمر دونه وقتل كثيرًا من أمراء دولته وصادر كثيرًا فلما رأى الحافظ ذلك سقاه سمًا فمات وقد ذكرناه‏.‏

ولم يل الأمر من العلويين المصريين من أبوه غير خليفة غير الحافظ العاضد وسيرد ذكر نسب العاضد وولي الخلافة بعده في مصر ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن عبد المجيد الحافظ واستوزر ابن مصال فبقي أربعين يومًا يدبر الأمور فقصده العادل بن السلار من ثغر الأسكندرية ونازعه في الوزارة وكان ابن مصال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان فحلفه العادل بالقاهرة وصار وزيرًا‏.‏

وسير عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي في عسكر وهو ربيب العادل إلى ابن مصال فظفر به وقتله وعاد إلى القاهرة واستقر العادل وتمكن ولم يكن وأما سبب وصول عباس إلى مصر فإن جده يحيى أخرج أباه أبا الفتوح من المهدية فلما توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه علي بن يحيى بن تميم بن يحيى صاحب إفريقية أخرج أخاه أبا الفتوح بن يحيى والد عباس من إفريقية سنة تسع وخمسمائة فسار إلى الديار المصرية ومعه زوجته بلارة ابنة القاسم بن تميم بن المعز بن باديس وولده عباس هذا وهو صغير يرضع ونزل أبو الفتوح بالأسكندرية فأرم وأقام بها مدة يسيرة وتوفي وتزوجت بعده امرأته بلارة بالعدل بن السلار‏.‏

وشب العباس وتقدم عند الحافظ حتى ولي الوزارة بعد العادل فأن العادل قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين‏.‏

قيل‏:‏ وضع عليه عباس من قتله فلما قتل ولي الوزارة بعده وتمكن فيها وكان جلدًا حازمًا ومع هذا أخذ الفرنج في أيامه عسقلان واشتد وهن الدولة بذلك وفي أيامه أخذ نور الدين محمود دمشق من مجير الدين آبق وصار الأمر بعد هذا إلى إن أخذت مصر منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر عود جماعة من الأمراء إلى العراق

في هذه السنة في رجب عاد البقش كون خر والطرنطاي وابن دبيس ومعهم ملكشاه ابن السلطان محمود إلى العراق وراسلوا الخليفة في الخطبة لملكشاه فلم يلتفت إليهم وجمع العساكر وحصن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود يعرفه الحال فوعده بالوصول إلى بغداد ولم يحضر‏.‏

وكان سبب ذلك ما ذكرناه من وصول عمه السلطان سنجر إلى الريفي معنى خاص بك فلما وصل إلى الري سار إليه السلطان مسعود ولقيه واسترضاه فرضي عنه فلما علم البقش بمراسلة الخليفة إلى مسعود نهب النهروان وقبض على الأمير علي بن دبيس في رمضان فلما علم الطرنطاي بذلك هرب إلى النعمانية‏.‏

ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوال ورحل البقش كون خر من النهروان وأطلق علي بن دبيس فلما وصل السلطان إلى بغداد قصده علي وألقى بنفسه بين يديه واعتذر فرضي عنه‏.‏

وذكر بعض المؤرخين هذه الحادثة سنة أربع وأربعين وذكر أيضًا مثلها سنة ثلاث وأربعين فظنهما حادثتين وأنا أظنها واحدة ولكنا تبعناه في ذلك ونبهنا عليه‏.‏

  ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وهزيمة الفرنج

في هذه السنة غزا نور الدين محمود بن زنكي بلاد الفرنج من ناحية أنطاكية وقصد حصن حارم وهو للفرنج فحصره وخرب ربضه ونهب سواده ثم رحل إلى حصن أنب فحصره أيضًا فاجتمع الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم وتلك الأعمال وساروا إلى نور الين ليرحلوه عن إنب فلقيهم واقتتلوا قتالًا عظيمًا‏.‏

وباشر نور الدين القتال ذلك اليوم فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وقتل منهم جمع كثير وأسر مثلهم‏.‏

وكان ممن قتل البرنس صاحب أنطاكية وكان عاتيًا من عتاة الفرنج وعظيمًا من عظمائهم ولما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند وهو طفل فتزوجت أمه ببرنس أخر ليدبر البلد إلى أن يكبر أبنها وأقام معها بأنطاكية‏.‏

ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى فاجتمعوا ولقوه فهزمهم وقتل فيهم وأسر وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند فتمكن حينئذ بيمند بأنطاكية وأكثر الشعراء بمديح نور الدين وتهنئته بهذا الظفر فإن قتل البرنس كان عظيمًا عند الطائفتين وممن قال فيه القيسراني في قصيدته المشهورة التي أولها‏:‏ هذي العزائم لا ما تدعي القضب وذي المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم االلاتي متى خطبت تعثرت خلفها الأشعار والخطب صافحت ياابن عماد الدين ذروتها براحة للمساعي دونها تعب أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة فؤاد رومية الكبرى لها يجب ضربت كبشهم منها بقاصمة أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب طهرت أرض الأعادي من دمائهم طهارة كل سيف عندها جنب

  ذكر الخلف بين صاحب صقلية وملك الروم

في هذه السنة اختلف رجار الفرنجي صاحب صقلية وملك القسطنطينية وجرى بينهما حروب كثيرة دامت عدة سنين فاشتغل بعضهم ببعض عن المسلمين ولولا ذلك لملك رجار جميع بلاد إفريقية‏.‏

وكان القتال بينهم برًا وبحرًا والظفر في جميع ذلك لصاحب صقلية حتى إن أسطوله في بعض السنين وصل إلى مدينة القسطنطينية ودخل فم الميناء وأخذوا عدة شوان من الروم وأسروا جمعًا منهم ورمى الفرنج طاقات قصر الملك بالنشاب وكان الذي يفعل هذا بالروم والمسلمين جرجي وزير صاحب صقلية فمرض عدة أمراض منها البواسير والحصى ومات سنة ست وأربعين وخمسمائة فسكنت الفتنة واستراح الناس من شره وفساده ولم يكن عند صاحب صقلية من يقوم مقامه بعده‏.‏

في هذه السنة زلزلت الأرض زلزلة عظيمة فقيل أن جبلًا مقابل حلوان ساخ في الأرض‏.‏

وفيها ولي أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي لأمر الله وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام وظهر له كفاية عظيمة عندما نزل العساكر بظاهر بغداد وحسن قيام في ردهم فرغب الخليفة فيه فاستوزره يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وكان القمر على تربيع زحل فقيل له‏:‏ لو أخرت لبس الخلعة لهذه التربيعات فقال‏:‏ وأي سعادة أكبر من وزارة الخليفة ولبسها ذلك اليوم‏.‏

وفيها في المحرم توفي قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي وولي القضاء عماد الدين أبو الحسن علي بن أحمد الدامغاني‏.‏

وفيها في المحرم رخصت الأسعار بالعراق وكثرت الخيرات وخرج أهل السواد إلى قراهم‏.‏

وفيها توفي الأمير نظر أمير الحاج وكان قد سار بالحاج إلى الحلة فمرض واشتد مرضه واستخلف على الحاج قايماز الأرجواني وعاد إلى بغداد مريضًا فتوفي في ذي القعدة وكان خصيًا عاقلًا خيرًا له معروف كثير وصدقات وافرة‏.‏

وفيها توفي أحمد بن نظام الملك الذي كان وزير السلطان محمد والمسترشد بالله‏.‏

وفيها توفي علي بن رافع بن خليفة الشيباني وهو من أعيان خراسان وله مائة وسبع سنين ومات الإمام مسعود الصوابي في المحرم منها وفيها توفي معين الدين أنر نائب أبق صاحب دمشق وهو كان الحاكم والأمر إليه وكان أبق صورة أمير لا معنى تحتها‏.‏

وفيها توفي القاضي أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني أبو بكر قاضي تستر وله شعر حسن فمنه قوله‏:‏ ولما بلوت الناس أطلب عندهم أخًا ثقة عند اعتراض الشدائد تطلعت في حالي رخاء وشدة وناديت في الأحياء‏:‏ هل من مساعد فلم أر فيما ساءني غير شامت ولم أر فيما سرني غير حاسد تمتعتما ياناظري بنظرة وأوردتما قلبي أمر الموارد أعيني كفا عن فؤادي فإنه من البغي سعي اثنين في قتل واحد وفيها توفي أبو عبد الله عيسى بن هبة الله بن عيسى البزاز وكان ظريفًا وله شعر حسن كتب إليه صديق له رقعة وزاد في خطابه فأجابه‏:‏ قد زدتني في الخطاب حتى خشيت نقصًا من الزيادة فاجعل خطابي خطاب مثلي ولا تغير علي عاده

  ذكر أخذ العرب الحجاج

في هذه السنة رابع عشر المحرم خرج العرب زعب ومن انضم إليها على الحجاج بالغرابي بين مكة والمدينة فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا القليل‏.‏

وكان سبب ذلك أن نظر أمير الحاج لما عاد من الحلة على ما ذكرناه وسار على الحاج قايماز الأرجواني وكان حدثًا غرًا سار بهم إلى مكة فلما رأى أمير مكة قايماز استصغره وطمع في الحاج وتلطف قايماز الحال معه إلى أن عادوا‏.‏

فلما سار عن مكة سمع باجتماع العرب فقال للحاج‏:‏ المصلحة أنا لا نمضي إلى المدينة وضج العجم وتهدده بالشكوى منه إلى السلطان سنجر فقال لهم‏:‏ فأعطوا العرب مالًا نستكف به شرهم‏!‏ فامتنعوا من ذلك فسار بهم إلى الغرابي وهو منزل يخرج إليه من مضيق بين جبلين فوقفوا على فم مضيق وقاتلهم قايماز ومن معه فلما رأى عجزه أخذ لنفسه أمانًا وظفروا بالحجاج وغنموا أموالهم وجميع ما عندهم وتفرق الناس في البر وهلك منهم خلق كثير لا يحصون كثرة ولم يسلم إلا القليل فوصل بعضهم إلى المدينة وتحملوا منها إلى البلاد وأقام بعضهم مع العرب حتى توصل إلى البلاد‏.‏

ثم إن الله تعالى انتصر للحاج من زعب فلم يزالوا في نقص وذلة ولقد رأيت شابًا منهم بالمدينة سنة ست وسبعين وخمسمائة وجرى بيني وبينه مفاوضة قلت له فيها‏:‏ إنني والله كنت أميل إليك حتى سمعت أنك من زعب فنفرت وخفت شرك‏.‏

فقال‏:‏ ولم فقلت‏:‏ بسبب أخذكم الحاج‏.‏

فقال لي‏:‏ أنل لم أدرك ذلك الوقت وكيف رأيت الله صنع بنا والله ما أفلحنا ولا نجحنا قل العدد وطمع العدو فينا‏.‏